فصل: صورة بيانية للطمع والشح ثم الندم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.صورة بيانية للطمع والشح ثم الندم:

60 - تلك صورة لمن سيطر عليهم الشيح فذاقوا عاقبته، ثم تنادوا بالتوبة والتلاوم قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ، قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ، كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17 - 33].
سبحان الله تعالت كلماته، وعزَّ قرآنه، وعلا بيانه، ولعلَّ من فضول القول أن أقول: إنَّ الآيات تصوير رائع لنفس الشحيح وحرصه وندمه؛ إن ذلك من فضول القول؛ لأنَّ القرآن كله رائع لا يصل إلى روعته كلام مطلقًا، ولا يستطيعه قائل.
إن الآيات الكريمة فيها:
1 - صورة بيانية لنفس الحريص الغافل عن سلطان الله تعالى.
2 - وصورة بيانية لغفلة الحريص عن قضاء الله تعالى، وأن كل شيء عنده بحساب.
3 - وفيها بيان لحال المناعين للخير، وما يدور في نفوسهم.
4 - وصورة بيانية للندم كيف يدخل النفوس بعد التنبه.
5 - ثم حال الندم وما يليه من توبة نصوح.
6 - ثم بيان حال الرجال في رضا الله تعالى.
وقبل أن نتكلم في تلك الصور البيانية نقول: إن الألفاظ ليس فيها نبوة تبدو، ولو بترجيح النظر كرَّات، والتناسق فيها متوافق النغم تفيد برنينها، وتصل إلى القلوب في عميقها، والمعاني متآخية تتجِه كلها إلى تصوير الطامعين أهل الشح، وكيف يبتدئ بالحرص العنيف المغالى فيه، وتغليب الطمع في كل شيء، والاستيثاق من تحقق ما يطمع فيه، كما يصور له الطمع، ثم يشتدُّ المنع حتى يكون لكل خير، ثم تكون المفاجأة.
هذا، وإنَّ مجال التصوير يظهر في أنَّ الموضوع كله ذكر مثلًا لكل منَّاع للخير؛ لأنه ذو مال وبنين، ودفعه غروره بما آتاه الله من مال ثم كفر به واعتدى، وكانت عاقبته أن حُرِ َم مما طغى به، وصار يوم القيامة أمام الجزاء الأليم، بيد أنَّ أولئك أصحاب الجنة وهي الحديقة المثمرة، كانت لديهم فرصة الرجاء بعد الندم، أما هؤلاء فقد فاتت فرصة الرجاء ولات حين مناص، ولنذكر بعد ذلك ما نستطيع الإشارة إليه من النواحي البيانية.
61 - الصورة الأولى: صورة الطمع المتغلغل في النفس الذي ينسيها كل شيء ما عدا ما تطمع به النفس، فقد قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ}.
اختبرهم الله تعالى بالطمع كما اختبر أصحاب البستان المثمر، ونرى التشبيه هو ما يسمَّى التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه حال الطاغين المعتدين أنْ رأوهم استغنوا؛ لأنهم ذو مال وبنين، فغلبهم الطمع، حتى أوبأهم في أسوأ الأحوال، والعناد مع الله تعالى، بحال أهل الحديقة إذ غرَّهم الغرور، فظنوا أنهم واصلون إلى ما يبتغون، وأقسموا على ذلك غير مقدِّرين عاقبة ولا حسابًا لم يأتي به الله تعالى، والتشبيه بلا ريب للتقريب، لا للمساواة؛ لأنَّ حال الكفار أشد عتوًّا وأبلغ غرورًا، وهكذا كل تشبيهات حال القيامة وما وراءها بحال ما يقع، ليس للتساوي، أو لأن المشبه به أبلغ في وجه الشبه، ولكن لتقريب الغائب بتصويره بالحاضر، ومثل ذلك تصوير المعنويات بالمحسوسات، وما يكون من جزاء وعقاب هو من المحسوسات، ولكنه غائب.
وهنا في النص نجد تصوير النفس الطامعة؛ إذ إنها لشدة رغبتها تتصور محل الطمع واقعًا لا محالة، لذلك أقسموا جاهدين في قسمهم ليصرمنها، أي: ليقطعنُّها قطعًا يستأصلونها من أدناها، وهذا اللفظ في هذا المقام أبلغ من القطع؛ لأنَّ الصرم قطع من الجذور، أي: هو قريب من القلع، ولتصورهم استجابة لطمعهم أنهم واصلون أكدوا الصرم باللام ونون التوكيد الثقيلة، ولشدة الطمع لم يتوقعوا تخلفًا قط، ولذلك لم يستثنوا، فلم يقولوا: إن شاء الله، أولًا؛ لأنَّ حرصهم ورغبتهم الجامحة أنستهم الله تعالى؛ ولأن تطلعهم إلى ما تهوى أنفسهم لم يجعل لاحتمال التخلف موضعًا في عقولهم، وكانت اللهفة والحرص على التنفيذ قد جعلاهم معجلين التنفيذ، فهم يبكرون به مصبحين غير متلبثين ولا متأخرين؛ لأن القطع أمر محبوب لا يرون معه إبطاء ولا تريثًا، بل يستعجلون ما يريدون، بل ما يهوون.
وقد صوَّر الله سبحانه وتعالى - غفلتهم عمَّا يقدره الله تعالى، مع أنه متحقق، فهم يقدرون ويرغبون ويستعجلون، والله من ورائهم محيط، وقد صوَّرَت الآية الكريمة قدر الله تعالى بقوله تعالت كلماته: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}، الطائف العارض الذي يعرض ليلًا من ريح صرصر عاتية، أو عواطف تقتلع الأشجار وتلقي بالثمار، وهذا الطائف بأمر الله تعالى، فكل شيء في الوجود بإرادة الله تعالى القدير، والصريم الأخشاب المتراكمة، أو الأشجار القائمة المصروم ثمرها المقطوع منها ما أينعت، وهذا بلا شك تصوير بَيِّنٌ لما يجريه الله تعالى في الأرزاق، ومهما يقدّر الإنسان في كسب الرزق ويحاول التحكم فيه فإنَّ الله تعالى فوق ما يقدّر.
ونرى من هذا تصوير ما في نفوسهم، وبيان ما يحيط بهم في بيان متماسك في ألفاظه، متآخٍ في معانيه.
62 - ولقد صوَّر سبحانه وتعالى - صورة الحرص ومنع الخير في أعنف صوره النفسية، فقال تعالت كلماته: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}.
أنزل الله بالحديقة ما أنزل وهم لا يعلمون، فكان حرصهم على ما هو عليه، وتعجلهم لجني الثمار كما هو، وقد صور الله تعالى ذلك بذكر حالهم أنهم تنادوا، أي: نادى بعضهم بعضًا مجمعين على ما أرادوا، أن أصبحو في الغد مبكرين على زرعكم وثماركم الذي حرثتم أرضه، وأصلحتم ثمره، إن كنتم تريدزن قطعه وقطف ينعه. ويلاحظ أن التعبير بصارمين فيه معنى الإرادة الصارمة للقطع الذي لا ريب فيه.
وإن معنى التعجل والحرص قد أكد بقوله تعالى حكاية عنهم: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} هذه النصوص تصور اجتماعًا وافتراقًا، فقد اجتمعوا على نية القطع، واجتمعوا على المسارعة فيه، واجتمعوا على أمر خبيث لم يعلنوه، ولكن اتفقوا عليه في تخافت وإسرار، واجتماع على تلك النية الخبيثة، وإن كلمة يتخافتون تصوير لحالهم الحسي ولأمرهم النفسي، ولمعنى المنع، فإنَّ الامتناع عن الخير لا يكون إلا بإصرار النفوس والتفاهم في سرٍّ، ولا يكون في جهر، فتخافتوا على ألَّا يعطوا مسكينًا، وعبَّر عن المنع عن إعطاء المسكين بمنعه من الدخول، فهم لا يمنعون العطاء فقط، بل يمنعونه من الدخول نهيًا مؤكدًا وبإصرارٍ على المنع، ولو بالدفع أو القهر، فضلًا عن الطردِ والنهر، وإغلاق الأبواب وإقامة الحراس المانعين، وأكَّدوا تنفيذ فكرتهم بما حكى الله عنهم من تأكيد المنع بالنون الثقيلة، هذه أحوال اجتماعهم، أمَّا افتراقهم فهو دخولهم على الحديقة، متفرقين كلٌّ في جانب منها، ودلَّ على ذلك قوله: {فَانْطَلَقُوا} فهم ذهبوا ليقطعوا ويجمعوا، كلٌّ في جانبٍ تجمعهم فكرة التعجل والتصميم والإلحاق في منع المساكين، وقال تعالى في تصوير تعجُّلهم مع سيطرة فكرة المنع عليهم {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِين}، فغدوا معناها أقدموا في باكورة الغداة، والحرص معناها المنع والتشدد فيه، والمعنى: إنهم أصبحوا قاصدين القطع، ومعتزمين المنع من حق الفقير، بل منع دخوله، وموضع قادرين هنا هو وصفهم بالقوة على العمل والتنفيذ والمنع بكل الوسائل.
هذا تصوير لا تعرف اللغات تصويرًا للحرص والتعجل والاستيثاق بالإيمان وعدم التردد فيما يعملون، ونية السوء، والتخافت فيها مثله، ولو اجتمعت الإنس والجن أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
63 - ولكن الآيات الكريمات بعد تصوير حالهم هذه في التعجل والحرص، لتصوير المفاجأة، وتنبيه المفاجأة للغافل، وإيقاظها للضمير النائم، وإثارتها للوجدان الساهي، فيقول سبحانه في رؤيتهم لتهدُّم ما بنوا عيه إشباع طمعهم، وما حملهم على نية البشر، فقال تعالت كلماته: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}.
كانت المفاجأة بمقدار الحرص والطمع، واسترسالهم في المطامع المادية حتى استأثروا بها ولم يعطوا منها حق الفقير المسكين والسائل والمحروم، وإذا كان حرصهم بلغ أقصاه، فالمفاجأة بالحرمان كانت أشدَّ وقعًا، أصابتهم بالحيرة الشديدة، والضلال البعيد، وأوّل الضلال أنهم توهَّموا غير أرضهم، فلمَّا استيقنوا أحسّوا بضلال آخر معنوي أشدَّ فتكًا في النفوس وتأثيرًا في القلوب، وهو إحساسهم بالضلال المعنوي إذ قدروا، ولم يدركوا تقدير الله، وحسبوا أن الأمر إليهم وحدهم، والله فوقهم، فلمَّا أدركوا ضلال تفكيرهم قرروا الحقيقة الثانية، وهي أنَّ الله تعالى قدّر حرمانهم، وما قدره نافذ لا محالة، ولذا قالوا كما حكى الله عنهم مؤكدين: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون}، فالإضراب معناه هنا: إنهم ترقوا من حال الضلال المؤكد إلى حال الإيمان بالحرمان المؤكد.
وإن قوله تعالى عنهم: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون} بعد {إِنَّا لَضَالُّونَ} فيه إشارة واضحة إلى الأسف والألم المرير؛ ألم الضلال والحرمان من الهداية، ثم الحرمان المطق من الثمرات التي طمعوا فيه، وتخافتوا على ألَّا يعطوا الفقير.
وإذا كانوا قد اجتمعوا على ما كان منهم أولًا، فقد اجتمعوا على المفاجأة والحرمان ثانيًا، ولكن يظهر أنَّ الشر لا يمكن الإجماع عليه دائمًا، بل لا بُدَّ من قائم الله تعالى بحجة، وإذا لم يستمع له قول ابتداء فإنَّ قوله سيكون له صدى في النتيجة بعد أن تتبدى الأمور وتنجلى.
وكذلك كانت حال أصحاب الجنة، فقد كان فيهم رشيد ينبههم إلى خطأ ما أزمعوا أن يفعلوه، وقد حكاه الله سبحانه وتعالى - بقوله: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}.
الوسط هو الأمثل، والوسط في أوصاف الخير هو الأمثل دائمًا، ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وهذا الأمثل عندما رأى حالهم وتدبيرهم وطمعهم، وما يسرون به وما يجهرون، وما يتخافتون وما يعلنون، لاحظ أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فكان لا بُدَّ لكي يدركوا صالح أمورهم أن يؤمنوا بالله وأن يذكروه في أعمالهم ظاهرة وباطنة، فهم لا ينقصهم الجد في العمل، ولكن ينقصهم الإيمان، فقال لهم: {لَوْلَا تُسَبِّحُون} أي: هل تسبحون وتنزهون الله تعالى وتقدسونه، وتعلمون أنه القاهر فوق كل شيء، وأنه العليم الحكيم، وهنا كان فيما حكاه الله تعالى بالتعبير: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} الاستفهام الداخل على النفي في معنى الإثبات؛ لأن نفي النفي إثبات، وهو يدل على التوبيخ، وتذكيرهم بأنهم لم يفعوا ما فعلوا فاقدين للمنبه المرشد، فقد أرشدهم إلى الطريقة المثلى والمنهاج الأسلم، وهو الإيمان بالله تعالى وتقديسه وتنزيهه، والإحساس بأنه الغالب على كل شيء، القاهر فوق عباده.
64 - إن المفاجأة مع التذكير، ووجود الضمير والنفس اللوامة من شأنها أن تحيي موات القلوب، وخصوصًا أنه وجد من بينهم من ربط بين الحرمان الذي فوجئوا به والضلال الذي كان من نسيان ربهم، وحرصهم وطمعهم، وتفاهمهم على حرمان الضعيف مما أخرج الله تعالى من الأرض، كان ذلك كله سبيل الهداية التي تجيء، ومن القارعة التي تقرع الحسّ والنفس تنبهوا فعلموا ما ينقصهم، وأنهم لهجوا في الدنيا، ولم يذكروا الله تعالى خالق السماوات، فقالوا فيما حكى الله تعالى عنهم: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.
بعد أن تنبهوا من غفتلهم، واستأنسوا بالحق من تذكير أمثلهم طريقة استجابت نفوسهم لداعيه، وعلموا أمرين: علموا أنهم كانوا غافلين عن ربهم، وعلموا أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس فيما تخافتوا به، قالوا في إعلان إيمانهم بالله: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} نقدِّس وننزِّه ونسلِّم أمورنا لربنا الذي خلقنا وربَّانا وهو الحي القيوم القائم على كل شيء، فرجعوا بذلك إلى الله تعالى خالق كل شيء، ولكنه لا يكون الرجوع كاملًا إلا إذا تابوا توبة نصوحًا، وأحسنوا التوبة، وأول طريقة للتوبة هو الإقرار بالذنب، إقرار من يحس بذل المعصية، وذل الذنب قربة، كما يقول ابن عطاء الله السكندري: (إن معصية أورثت ذلًّا خير من طاعة أورثت دلًّا) ولهذا الإحساس بالذنب، قالوا مؤكدين القول: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين} لقد ظلموا أنفسهم بطمعهم وحرصهم، ونسيان ربهم، وظلموا الناس بمنع الفقراء من حقهم، وإن الإحساس بألم المعصية من شأنه أن يجعل كل واحد يلقي تبعة التقصير أو التنبه على غيره، فهم كانوا مجتمعين على طمعهم وحرصهم وتعجلهم، ولكنهم بعد أن أحسوا بجرمهم أخذ كل واحد يتبرأ من أنَّه الذي ابتدأ بالدعوة بالمعصية، وأن الآخر هو الذي دعا فأجاب، ولذا قال الله تعالى حكاية عنهم بعد أن دخل الإيمان قلوبهم وأشربوا حبه: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُون} كل واحد منهم يلقي على الآخر لومًا، لا كل اللوم، فإنهم جميعًا ملومون؛ لأنهم جميعًا نووا وهمُّوا أن ينفوا ما نووا، والتلاوم هنا ليس هو الاختلاف الذميم، ولكنه من الإحساس الكريم؛ إذ إنَّهم أحسوا بأن عبء المعصية كاملًا ينوء بكل واحد منهم، فيريد أن يلقي جزءًا منه على صاحب له، وإن اتفاقهم لا يجيء من غير داعٍ منهم، فإذا كان أوسطهم دعاهم إلى الخير ولم يستجيبوا فقد وجد منهم من دعا إلى الشر واستجابوا له، وكان شرهم متعدد الأطراف، فكان كل منهم قد دعا إلى ناحية دون الأخرى، وهنا نجد أن التعبير بالتلاوم لا يدل على الفرقة والانقسام، بل إنَّه في هذا لا ينافي الالتئام.
وإنهم ينتهون من هذا التلاوم الذي ابتدأ بالألم من عبء المعصية، ينتهون بعد التلاوم لفرط إحساسهم بالندم إلى أن يقولوا: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} كان الإقرار بالذنب في هذه المرة أقوى من الإقرار أولًا؛ لأنهم أحسُّوا بالهلاك الشديد ينزل بهم، قالوا منادين الويل: {يَا وَيْلَنَا}، أي: أيها الويل النازل باستحقاق أقبل، فإن ذلك وقتك، ونحن موضعه، ولا نتزايل عنه ولا نخرج، وعلَّلوا الويل الذي يستحقونه بأنهم كانوا طاغين، والطغيان دائمًا يؤدي إلى الظلم، فإن كانوا في الآية السابقة قد اعترفوا بالظلم، ففي هذا النص السامي اعترفوا بسببه وهو الطغيان، والطغيان يتبدئ من وقت أن يحسّ الشخص بأنه استغنى عن معونة غيره، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وقد ظنوا أنهم لا يحتاجون إلى معونة أحد، وأن الله لا يمنعهم خيرًا أوتوه، وأن الأرض أرضهم والعمل عملهم، والكسب كسبهم وحسبوا أن الثمرات آتية لا محالة.
بعد ذلك اتجهوا خاضعين إلى ربهم، معتقدين أنَّ الخير بيده، وأن لا سلطان إلا سلطانه، فاتجهوا بالرجاء بعد أن رأوا المنع جهارًا نهارًا، وقالوا راجين: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} هنا كان التفويض كاملًا، وإن ذلك النص الكريم يفيد في تفويضهم ثلاثة أمور في أجمل تعبير من الله تعالى عن ضمائرهم الخائفة، بعد أن خلعوا رداء الطغيان:
أولها: الرجاء، والرجاء يتضمَّن معنى التفويض من ناحية أنَّهم لا يرجون إلَّا من الله، ومن ناحية أنَّ كل ما يكون من الله تعالى خير، فإذا كان نزل بهم ما يكرهون فعسى أن يكون الخير في هذا الحرمان، كما قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، ومن الخير أن هذبت نفوسهم، وإذا كان حالهم من قبل حال طغيان وغرور، فعسى أن يعطيهم الله تعالى بديلًا لما منعوه، ويكون معه الاطمئنان.
ثانيها: الاتجاه إلى الله تعالى مالك أمورهم ومربيهم، والكالئ لهم والحامي، والشعور بالمساواة مع المساكين في ربوبية الله الخالق لكل شيء.
ثالثها: قولهم: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُون}، ولا أحسب أنَّه يمكن أن تضع كلمة مكان راغبون، مع إلى، وتجد في هذا التعير إشارات بيانية رائعة؛ أولاها: في تكرار كلمة ربنا للشعور بنعمه سبحانه الظاهرة والباطنة، والثانية: في تقديم الجار والمجرور على خبر إن، فإن ذلك التقديم للقصر، وهو يفيد أنهم لا يرغبون في مال ولا نشب، ولا يحسبون شيئًا يمكن أن يكون بغير إرادة ربنا؛ إذ كانوا قد حسبوا أنهم بجهودهم يصلون ويمنعون الماعون، ويقسمون ألَّا يدخلنها مسكين، ولكنهم الآن لا يتجهون إلّا إلى الله تعالى العلي القدير، والتعبير براغبون يفيد أنهم يسيرون في طريق الله تعالى وحده برغبة ومحبة، فهم يطلبون طريق الله تعالى لا خوفًا من عقابه، ولا رجاء لثوابه فقط، ولكن محبة لذاته العلية، فانتقلوا من دركة العصيان إلى مرتبة المحبة وطلب الرضوان.
65 - ونرى في هذه الآيات الكريمة المصورة تللك القصة التي تشتمل على العبرة الواضحة، فيها تتلاقى المعاني، وكل معنى ردف لما سبقه، ومقدّم لما يليه في تآخٍ بَيِّن جزئياته، وتعانق مع كلياته، كل جزء من الكلام يوعز لما يليه، وفيها الألفاظ مؤتلفة في نغم يهز النفس، وتآلف بين الألفاظ مفردة وجملًا، وفيها تصوير للنفس الإنسانية كيف يدخل إليها الطمع، ومع الطمع الشح، وإذا سكن الشح قلبًا دخل منه الظلم وهضم الحقوق، وإنه لكي ينجو المؤمن من أن يكون ظالمًا عليه أن يراقب مداخل الشح إلى نفسه، فإن سدَّ طرقها إليها فقد فاز وكان عادلًا، كما قال تعالى في سورة أخرى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، فإن وراء الشح الهلاك، ووراء السماحة الفوز.
وإن الآيات تصور لنا حال من يغتر، ومن يطغيه الاستغناء، ومن يحرم نعمة الاعتماد على الله تعالى والتفويض إليه، ثم حاله عندما يفاجأ فيجد قدر الله تعالى أمامه يرد عليه طغيانه، ثم تصوّر النفس التائبة، وذلك كلام العزيز الحميد.